لمَّا فتحَ رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-مكَّةَ،وفَرَغَ من"تبوك", وأسلمتْ ثقيف وبايعت، وضرب رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-أمدَ أربعةِ أشهرٍ لقبائلِ العَرَبِ المشركين؛ لكي يُقرروا مصيرَهم بأنفسِهم قبلَ أنْ تتخذَ الدَّولةُ الإسلاميةُ منهم مَوْقِفاً مُعيَّناً، ضربتْ إليه وفودُ العربِ آباطَ الإبلِ مِنْ كلِّ وجهٍ, مُعلنةً إيمانَها وولاءَها لهذا الدِّينِ الحنيفِ.
إنَّ قصصَ الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-معها من الأهميةِ بمكانٍ. لقد تركتْ لنا تلك الأخبارُ والقصصُ منهجاً نبويَّا كريماً في تعاملِهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-مع الوفودِ يمكننا الاستفادة من هديه-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-في تعامله مع النفسية البشرية, وتربيته, ودقته, وتنظيمه, ففيها ثروة هائلة من الفقه الذي يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف, وبعد النظر, وجمع القلوب على الغاية, وربط أفراد بأعيانهم بالمركز بحيث تبقى في كلِّ الظروفِ والأحوالِ مرتكزاتٌ قويةٌ إلى الإسلام إلى غير ذلك من مظاهر العظمة للعاملين في كل الحقول نفسيَّاً واجتماعياَّ واقتصادياً وإداريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا تعطي لك عامل في جانب من هذه الجوانب دروساً تكفيه وتغنيه, هذا وقد تميز العام التاسع بتوافد العرب إلى المدينة، وقد استعدت الدول الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال, بتهيئة مكان إقامة لهم, وكانت هناك دار للضيافة، ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين، واهتم-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كانت تلك الوفود حريصة على فهم الإسلام وتعلم شرائعه وأحكامه، وآدابه، ونظمه في الحياة، وتطبيق ما علموه تطبيقاً عمليّاً، جعلهم نماذج حياة لفضائله، وقد كان لكثير منهم سؤالات عن أشياء كانت شائعة بينهم ابتغاء معرفة حلالها وحرامها، وكان النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- حريصاً أشد الحرص على تفقيههم في الدين، وبيان ما سألوه عنه، وكان-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-يدني منهم من يعلم منه زيادة حرص على القرآن العظيم وحفظ آياته تفقهاً فيه ويقول لأصحابه: فقِّهوا إخوانكم، وكان-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-يسأل عمن يعرف من شرفائهم, فإذا رغبوا في الرحيل إلى بلادهم أوصاهم بلزوم الحق، وحثَّهم على الاعتصام بالصبر، ثم يجزيهم بالجوائز الحسان، ويسوِّي بينهم فإذا رجعوا إلى أقوامهم رجعوا هُداة دعاة، مشرقة قلوبهم بنور الإيمان، يعلمونهم مما علِّموا، ويحدثونهم بما سمعوا، ويذكرون لهم مكارم النَّبيِّ وبره وبشره, واستنارة وجهه سروراً بمقدمهم عليه، ويذكرون لهم ما شاهدوه من حال أصحابه في تآخيهم وتحاببهم, ومواساة بعضهم بعضاً ليثيروا في أنفسهم الشوق إلى لقاء رَسُول اللهِ- صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، ولقاء أصحابه، ويحببوا إليهم التأسي بهم في سلوكهم ومكارم أخلاقهم، واختارت بعض الوفود البقاء على نصرانيتها كوفود نصارى نجران ووافقت على دفع الجزية، ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعض الوفود ونذكر الفقه والفوائد الدروس والعبر إن وجد، فإلى الوفود(1).
سنة بداية الوفود:
اختلفَ العلماءُ في تاريخ مَقدمِ الوفودِ على رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-وفي عددِها, حيث أشارتِ المصادرُ الحديثيةُ والتاريخيةُ إلى قدومِ بعضِ الوفودِ إلى المدينة في تاريخ مبكِّرٍ عن السنة التاسعة، ولعلَّ ذلك مما أدَّى إلى الاختلافِ في تحديدِ عددِ الوفودِ بين ما يزيد عن ستين وفداً عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم(2).
وقد استقصى ابنُ سعد-رحمه الله- في جمع المعلومات عن الوفود، وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار، ولا تخلو أسانيد ابن سعد أحياناً من المطاعن، كما أن فيها أسانيد للثقاة أيضاً(3)، ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين، رغم أن عدداً كبيراً من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة(4)، فقد أورد البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-ووفود أخرى مثل: عبد القيس وبني حنيفة، ووفد نجران، ووفد الأشعريين وأهل اليمن، ووفد دوس(5)، وتعززت أخبار هذه الوفود بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السِّيرة والمغازي, وقد أورد مسلمٌ أخباراً عن أغلب الوفود المذكورة آنِفاً,كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عدداً كبيراً من الوفود(6).
وقال ابن إسحاق: قدمت وفودُ العربِ على رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، في سنة تسع للهجرة وكانتْ تُسمَّى بذلك، ففيها قدم وفد بني تميم، وفيها قدم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطُّفَيل، وأرْبَدُ بن قيس بن جَزء بن خالد بن جعفر، وجَبَّار بن سلمى بن مالك بن جعفر، قاله ابن إسحاق(7).
قال ابن إسحاق: لما افتتح رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- مكة, وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كلِّ وجه, فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه(8).
قال ابن هشام: حدّثني أبو عُبيدة: أنّ ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تُسمّى سنة الوفود(9).
قال ابن إسحاق: وإنّما كانت العرب تَربّص بالإسلام أمر هذا الحيّ من قريش وأمر رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم-عليهما السلام-، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-وخلافه، فلما افتُتحت مكة، ودانت له قريش، ودخلها الإسلام, وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ولا عداوته، فدخلوا في دين الله، كما قال –عز وجل- لنبيِّه-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا سورة النصر:(1-3). أي فاحمد الله على ما أظهر من دِينكَ، واستغفره إنه كان تَوَّاباً(10).